الأستاذ معاذ قنبر &
والدكتور إقبال مرشان
للامانة العلمية هذة المقالة العلمية نشرت من قبل الجمعية الكونية
السورية ونشرتها هنا في مدونتي من مصدرها كما هي وانا قد لا اختلف مع معظم ما جاء
بها كون خلفيتي العلمية في مجال البيولوجي الا في قضية واحدة جوهرية الا وهي بان
الحياة بدات من مكونات مادية بحتة وفي هذه الجزئية بالذات اختلف مع المقالة كليا وانا
من المدرسة التي تؤمن بوجود خالق مدبر مبدع وفاطر السموات والارض سبحانه وتعالى
كما ورد في القران الكريم بأن الانفجار العظيم ورد ذكره في الآية رقم 30 من سورة الأنبياء في قوله تعالى:
تبدو الحياة في نشوءها و تطورها كنموذج رائع و محكم نستطيع من خلاله التماس روعة عالم مادي أنتجت قوانينه أروع مأثرة ألا و هي الحياة . فكيف يمكننا تقصي تلك المأثرة ؟ الجواب هو العلم الذي يضعنا وجهاً لوجه أمام الكون لاكتشاف عظمة ما يحمل من قوانين مهدت لتحول الحياة ليست إلى احتمال كبير و حسب بل إلى ضرورة حتمية .
أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ
كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ
أَفَلَا يُؤْمِنُونَ وقال تعالى في سورة الذاريات: وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ
ولهذا كان لا بد من التنويه للقراء الزائرين لمدونتي وتوضيح وجهة
نظري العلمية والشخصية ولكم مني كل الاحترام والتقدير. د. عبدالغني حمدان
تبدو الحياة في نشوءها و تطورها كنموذج رائع و محكم نستطيع من خلاله التماس روعة عالم مادي أنتجت قوانينه أروع مأثرة ألا و هي الحياة . فكيف يمكننا تقصي تلك المأثرة ؟ الجواب هو العلم الذي يضعنا وجهاً لوجه أمام الكون لاكتشاف عظمة ما يحمل من قوانين مهدت لتحول الحياة ليست إلى احتمال كبير و حسب بل إلى ضرورة حتمية .
نشوء الحياة و الخلية الأولى :
إن الحياة في تفتحها و تطورها بالمعنى البيولوجي للكلمة كانت
مرتبطة و متشابكة بصورة واسعة مع تطور الوسط المحيط الذي بدأت الحياة تنتشر فيه ,
لقد أصبحت حقيقة بديهية بالنسبة للعلماء أن التطور في انتشار الحياة يتطابق مع
تكيف الكائنات الحية في كل لحظة و بصورة متتابعة و دقيقة مع الإمكانيات و الضرورات
المتعددة للوسط الذي تعيش فيه . و لكن النظرة المقلوبة لهذه المقولة على الأقل في
المراحل الأولى من تطور الحياة صحيحة أيضاً هذه النظرة تدل على انه و في الحقبة
الأولى من التطور تكيف المحيط أيضاً و بصورةمذهلة مع متطلبات الكائنات
الحية الناشئة أي أن مجموعة الشروط البدئية التي أحاطت الكوكب الأرضي في بداياته
ساهمت في نقل الحياة من إمكانية إلى ضرورة لا مناص منها ذلك أن تطوراً معيناً على
سطح الكوكب الأرضي قد بدأ و لعدة مئات الملايين من السنين قبل ظهور البنى العضوية
الأولى و سار في منحى لم يجعل نشوء الحياة ممكناً و حسب بل جعله أمراً حتمياً لا
مناص منه .
و هنا لا بد لنا من عرض موجز بسيط عن تكون الكوكب الأرضي و
المراحل التي مر بها قبل تكون المفهوم البيولوجي للحياة : لقد تكونت الأرض من مواد
جاءت من أعماق الكون هذه المواد هي خليط من المواد اللاعضوية البسيطة المحتوية على
جميع العناصر التي نراها اليوم على كوكبنا هذه العناصر كانت بدورها منبثقة عن
العنصر الأولي البدئي الهدرجين و هو أول و أخف العناصر و العنصر المنبثق عن
الانفجار الكوني الكبير . و عليه يبدو كل شيء قد بدأ من غيمه هائلة من الهدرجين و
قد مر بعد الانفجار الكوني فترة 9-10 مليار سنة حتى كوّن الغبار الكوني
شمسنا و كواكب مجموعتنا الشمسية بما فيهم كوكبنا الأرضي . و بعد نشوء الأرض من
التحام الغبار و انضغاطه بتأثير جاذبيته الخاصة أصبح لدينا جرم سماوي ذي كتلة
محددة و حاصل على جاذبية ضغطت الغلاف الغازي المحيط بالأرض كما أن البعد الثابت عن
الشمس و حقلها الكهرطيسي أدى إلى توفر شروط شعاعية و حرارية شديدة الخصوصية على
الكوكب فقد بزغت الشمس في تلك الفترة بقوة تقدر ب 70 بالمائة فقط من قوتها الحالية
و قد كان الغلاف الجوي الأرضي لا يحتوي على أوكسجين و كانت هناك بضعة أصوات خلف
الرياح مثل هسيس الحمم المصطدمة بالمياه أو دوي النيازك , لم يكن هناك أي نباتات
أو حيوانات أو بكتريا أو فيروسات . و قد بدأ الغلاف الجوي الأرضي بالتشكل و
التبلور نتيجة الأبخرة المتصاعدة عن البراكين العديدة المتفجرة على سطح الكوكب
نتيجة الحرارة العالية في تلك الفترة , و كانت تلك الأبخرة مكونة بشكل أساسي من
بخار الماء ثم من مقادير من غازات الفحم و الميثان و الأمونيا , تلك العناصر و مع
تساقط بخار الماء الذي كون مجموعة غيمية هائلة كونت البحار الأولى .
- و
لعدم وجود الأوكسجين في تلك الفترة كانت الأشعة فوق البنفسجية تخترق الجو الأرضي
بشكل مستمر و من المؤكد بأن تلك الأشعة استطاعت النفاذ إلى عدة أمتار في الماء
الغني بالجزيئات المذكورة و ذلك أدى لتحريض الجزيئات المعنية في ذلك العمق لتتجمع
مشكلة قطع بناء أكبر و نفس الأشعة التي سببت نشوء تلك القطع عملت على تفكيكها
أيضاً و بذلك نتجت دورة متواصلة من البناء و التفكيك و بما أن الشعاع الشمسي لا
يمكنه النفاذ إلى الطبقات الدنيا من قاع المحيط ( لا يتفذ أكثر من 10 م من مياه
البحار ) فقد استطاع قسم من الجزيئات الأكبر أن يحتمي في الأعماق غير مبال بطبيعة
الدورة العملية في الأعالي و قد تسببت الأشعة فوق البنفسجية بطاقتها القوية في
تفكيك المياه نفسها إلى موادها المؤلفة من أوكسجين و هدرجين و بالتالي حدث على سطح
البحار ما يسمى بالتفكك بالضوء أما الهدرجين فقد تصاعد خارج نطاق الجاذبية الأرضية
التي لم تستطع أن تبقيه في مجالها لخفته و بقي الأوكسجين في الغلاف الجوي الأرضي
مشكلاً حاجزاً منيعاً في وجه استمرار تدفق الأشعة فوق البنفسجية و بالتالي منع
تفكك الجزيئات الموجودة في الماء و هذا ما سمي بقانون الكبح العكسي و عنده توقفت
آلية نشوء الخلايا العضوية المنقسمة إلى آلية تطور هذه الخلايا , و هذا ما يؤكد أن
نشوء الحياة لم يحدث هكذا فجأة و من دون أي مقدمات , إن نشوء الحياة على الأرض قد
حصل خلال عملية تطورية شديدة التعقيد و البطء ذات تسلسل دقيق و منسجم و خالي من
القفزات و صحيح بصورة مذهلة .
- أما
عن مصدر تكون تلك المكونات الأولى للخلايا الحية و مكان ذلك فهناك ثلاثة احتمالات
قد قدمت لتفسير تكون الخلايا الحية الأولى وفق الآتي :
النظرية الأولى:
تقول
بأن الحياة بدأت في كرة من الثلج و قد عبر عنها العالم جيفري بادا **
عندما أكد على أنه كلما كانت درجات الحرارة أكثر برودة كلما كانت المركبات أكثر
ثباتاً و قد أمدتنا الأنقاض البين كوكبية و المنافذ المائية الحرارية و التفاعلات
في الغلاف الجوي بمركبات مثل الفورمالديهايد و السيانيد و الأمونيا التي اتحدت
فيما بعد في الماء داخل شبكة من الثلج و نتج عن هذه العملية الحمض الأميني المعروف
بالجليسين و في النهاية ربما تسبب تصادم حجر نيزكي ضخم بذوبان هذه الثلوج .
النظرية الثانية :
تقول بأن الحياة نشأت في بركة و قد عبر عنها
العالم جوستاف آرينوس * *قائلاً
أن التجمعات الصغيرة من مياه الأمطار الجارية فوق سطح الأرض هي الوسيلة الأكثر
احتمالاً للحصول على التركيز الضروري من المكونات . فضلاً عن ذلك ربما تحوي البركة
مركبات مركزة على الأسطح الداخلية للأملاح المتواجدة في صورة ألواح و التي تجتذب
جزيئات معينة و تعمل كمحفز في التفاعلات الكيميائية اللاحقة و هكذا تم اتحاد اثنين
من جزيئات فوسفات الألديهايد لتكوين فوسفات السكر و هو مركب تمهيدي محتمل لجزيء ( RNA )
.
النظرية الثالثة :
تقول
بأن الحياة قد نشأت في مرجل و عبر عنها العالم الكيميائي جونتر فاشتر شاوزر * *بقوله
أن الأرض كانت بركانية في كل مكان و كانت الغازات المنبعثة من الصخور المنصهرة
تتسرب بصورة دائمة من السطح مرشحة لمركبات حيوية .
و
بعد عرضنا لتلك الدراما البيولوجية لا بد و أن السؤال الذي يطرح نفسه الآن هو كيف
أمكن من هذا الخليط البدئي المكون من كربون و أمونيا و ميثان أن يشكل خلية حية
بالمعنى البيولوجي للكلمة ؟
في
الواقع إن مسألة النشوء العضوي من المركبات اللاعضوية كانت مشكلة في وجه العلماء
بدت و كأنها غير قابلة للحل فقد كانوا يعرفون بأن المركبات تنتجها كائنات حية و
لكنهم كانوا يحتاجون إلى تفسير وجودها كمقدمة لنشوء الكائنات الحية التي لم تكن
لتوجد بعد , في هذا الظرف الحرج قام بالخطوة الحاسمة طالب يدرس الكيمياء اسمه
ستانلي ميلر من جامعة شيكاغو * *,
ففي العام 1953 قام باختبار الحالة التي كانت فيها الأرض في بدايات نشوءها وفق
نموذج مصغر حيث قام بتفريغ شحنات كهربائية شبيهة بنموذج البرق و الصعق التي كانت
موجودة في ظروف الأرض الأولى في وعاء مائي يحوي محلول من غازات الميثان و الأمونيا
و قد ظل التفريغ مستمراً لمدة 24 ساعة فقط أما النتيجة فقد كانت أجرأ من كل
التوقعات . لقد أدت الطاقة تلك إلى إنتاج ثلاثة من أهم الحموض الأمينية دفعة واحدة
هما ( الغليزين و الألانين و الآسبارجين ) هذه الحموض هي ثلاثة من أصل ما مجموعه
فقط 20 حمض أميني يكون جميع أنواع البروتينات البيولوجية الموجودة على الأرض , و
قد تمكن من بعد ذلك العالم الروسي تيريغين من الحصول على نفس الحموض الأمينية التي
حصل عليها ميلر و لكن باستعمال الأشعة فوق البنفسجية . كما قام البروفسور ج . شرام
الذب انطلق من نظرية أن الأجزاء الجافة من الأرض البدائية كانت تحوي حقول كبيرة من
الفوسفات فقام بمزج نكليوتيدات بمشتق من حمض الفوسفوريك و رفع درجة حرارة المزيج
إلى 60 مئوية فحصل على سلاسل جزيئية تتكون من 30 إلى 200 نكليوتيد تتحد مع بعضها
البعض , و مع أننا ما زلنا بعيدين عن ال 5 ملايين زوج من النكليوتيدات التي تكون
رنا البكتريا فإن هذه التجارب بينت على أن اللبنات الأساسية للمادة الحية قد تكونت
بوفرة تحت تأثير الطاقة الحرارية الشعاعية خلال الحقبة الأولى من عمر الأرض .
ماذا نستنتج من ذلك ؟ إنه لمن المعروف حتى لغير الكيميائيين
بأن بعض العناصر تتحد ببعضها البعض بطريقة سهلة و بالتالي فإن نشوء الروابط
الكيميائية ما بين هذه العناصر يكون أكثر احتمالاً من نشوء البعض الآخر , وهذا له
علاقة ببنية القشور الإلكترونية المحيطة بنواة الذرة و بالتالي فإن التطابق في
بنية هذه القشور يتيح الاتحاد السريع و في حالات أخرى لا يحصل التفاعل إلا ببطء
كبير أو بعد تزويد العملية بكميات طاقية كبيرة كما أن هناك بعض العناصر التي تكون
قشرتها الإلكترونية محكمة الإغلاق إلى درجة تصبح معها غير قادرة على التفاعل مع
عناصر أخرى و هي ما نسميها بالغازات الخاملة . و هذا ما ينطبق في الاستعداد
للتفاعل فلأسباب مشابهة من حيث المبدأ حصلت عملية تشكل الحموض الأمينية الثلاثة في
التجربة المذكورة و فق مرحلتين :
الأولى
: و فيها تحطمت مواد التجربة الأساسية الميثان و الأمونيا و الماء بواسطة التفريغ
الشحني .
الثانية :
اتحدت تلك النتاتيف مجدداً مع بعضها البعض و في هذا الاتحاد لا تشكل المواد
الأساسية مجدداً في صيغتها السابقة و حسب و إنما يشكل جزء من تلك النتاتيف روابط
جديدة من بينها عدد غير قليل من الروابط الكيميائية الأكبر و الأكثر تعقيداً .
و قد قام العلماء باستخدام مسابر فضائية تعمل بالراديو للبحث
عن مختلف الروابط الكيميائية الموجودة في الفضاء و قد أشارت المعلومات إلى مقدار و
شمولية العناصر الموجودة في الكون للاتحاد مع الجزيئات التي يدور حولها الحديث هنا
. لقد اكتشفت تلك المثابر أولاً وجود الرابطة O H و أيضاً الأمونيا و الميثان كذلك روابط الفحم- الكبريت,
بالإضافة إلى ذلك فلقد كشفت الأبحاث التي قامت على مذنب هال – بوب الذي ظهر مؤخراً
في سماءنا سنة 1997 عن وجود عناصر من الماء و الأمونيا و سيانيد الهدرجين و هي كما
ذكرنا وحدات يمكنها التفاعل فيما بينها لتكوين الأحماض الأمينية المكونة
للبروتينات , إن اكتشاف هذه الروابط في الفضاء ليس وثيقة قاطعة على ميل جميع
العناصر إلى الالتحام و حسب بل تشير إلى الاحتمال الكبير لنشوء الجزيئات التي
نتحدث عنها كما أنه يدفعنا لإمكانية التفكير في وصول بعض الجزيئات المتواجدة في
الغلاف الجوي الأرضي الأولي قادمة من أعماق الفضاء , و عليه فقد تكون بعض الروابط
الهامة في التطور اللاحق نحو الحياة قد تشكلت أولاً في الفضاء ثم انتقلت فيما بعد
إلى الأرض و لكننا حتى لو نظرنا من هذا المنظار فلن تكون الحياة هي من هبط من
الفضاء و لكن جزءاً من الروابط الكيميائية المهيئة مع ظروف أرضية مناسبة هي من مهد
لنشوء بدايات الحياة .
و بصفة عامة تقودنا تجربة ميلر إلى عدة اعتبارات : فهي تشير
أولاً و بطريقة مدهشة كم هي بسيطة الطريقة التي تكونت بها المركبات العضوية
اللازمة للحياة بطريق لا عضوي كذلك فهي تشير إلى أن الاستعداد النوعي أي النزعة
للاتحاد الكيميائي الموجودة لدى المواد المتوفرة عند الانطلاق لتشكيل الروابط التي
نعرفها كمكونات للحياة كانت كبيرة بصورة مذهلة و متميزة ,و بتعبير آخر إن هذه
المركبات البيولوجية قد أصبحت وحدها قطع بناء الحياة اللاحقة لأن العناصر التي
تشكلت لخلافة الهدرجين كانت مركبة بشكل أنها فضلّت و دعّمت نشوءها .و بذلك يزول
الغموض على نشوء مكونات الحياة الأولى و يصبح قابلاً للتفسير بسهولة و يسر ,
فعندما نفترض وجود الهدرجين بخصائصه المتميزة و نضيف إليه قوانين الطبيعة كحقيقة
قائمة ليس لدينا أي خيار آخر تصبح نشوء مكونات الحياة أمر لا مناص منه .
بعد هذا العرض نتابع تأريخنا للحياة فبعد التوزع اللاعضوي
للجزيئات و العناصر في المياه الأرضية غدت الأرض في نهاية تلك الحقبة ممتلئة بالروابط
الكيميائية المعقدة و التي من بينها ما نعتبره اليوم من المكونات الأساسية للحياة
حيث يجب أن يكون قد حصل بعد ذلك أن بدأت مع تلك الروابط الكيميائية عملية أطلق
عليها مرحلة التطور الكيميائية قبل الحيوية . إن ما حصل في هذه المرحلة من التاريخ
كان عملية انتقائية من قبل الوسط المحيط لدفع التطور باتجاه الحياة و قد مضى وقت
طويل في مرحلة الاصطفاء تلك فكان عمر الأرض حوالي المليارين من السنين و بعد هذه
المدة الطويلة إذن بدأت المركبات التي غربلها و اصطفاها التطور الكيميائي و هي
حموض أمينية و بورينات و سكريات و بورفيرين بالتفاعل مع بعضها لتكون الخلية
المنقسمة الأولى , إن هذه الحموض الأمينية هي من كون الأساس الأولي لتكون
البروتينات و الحموض النووية D
N A التي
تعتبر مخزنة بناء الخلية باحتوائها على الشيفرة الوراثية حيث تقوم بتخزين سلاسل
محددة تماماً من الحموض الأمينية على هيئة شيفرات ثلاثية أسسيه ووفقاً لهذا
النموذج تستطيع الخلية تشكيل جميع الأجسام البروتينية التي تحتاجها لتجديد بنيتها
و بالدرجة الأولى لتشكيل الأنزيمات التي تلعب الدور الأساسي في عمليات الهدم و
البناء الخليوي , و عليه تبدو يبدو من الواضح أن الحموض الأمينية تملك خصائص مثلى
للتخزين كما أن البروتينات تصلح و ضمن شروط بيولوجية معينة لأن تكون قطع بناء
مناسبة بصورة خاصة و هكذا يمكن القول بأن البروتين قد كون مادة الحياة الأولى
فالمادة البروتينية تحمل على الدوام شحنة كهربائية تجعلها في تفاعل مع الأجسام
المكهربة المحيطة بها فهي تتذبذب كما يتذبذب الحديد بالقوة المغنطيسية و هذا
التذبذب هو في النهاية أقرب الأشياء إلى الإحساس و التحرك اللذين هما من خواص
الأحياء .
و إذا عدنا إلى تسلسلنا التاريخي نرى أنه و بعد مرحلة الاصطفاء
الكيميائي و في الفترة الواقعة ما بين 3,4 و 4 مليار سنة كانت هاتين
الجريئتين ( و هما البروتينات و المحمض النووي DNA ) قد التقتا ضمن ظروف مكنت قدرتهما
الفائقة على التكامل و العمل لأول مرة و ليس من شك أن هذا اللقاء قد أطلق الشرارة
الأولى التي منها بدأت عملية الانتقال من التطور الكيميائي إلى التطور البيولوجي
.و قد ساعدت الاكتشافات الجديدة العلماء على إماطة اللثام عن كيفية نشوء و استقرار
الحياة الأولى على الكوكب الأرضي و من ضمن تلك المكتشفات نجد الكائنات الدقيقة
المحبة للحرارة و المسماة ( الثرموفيلات ) حيث تعتبر هذه الكائنات من الإحفوريات
الحية و التي يعود تاريخها إلى الأيام المبكرة من عمر الأرض و تعتبر هذه الكائنات
من أكثر الكائنات بدائية و قد دفع هذا الاكتشاف العلماء للقول أن الحياة الأولى
ربما بدأت حول الينابيع البركانية الحارة في قاع المحيطات و لعل هذا ما لعبته
المواد العضوية الأكبر و الهابطة إلى القاع و بالتالي الغير متأثرة بعمليات التفكك
الحاصلة فوق السطح المائي و يبدو أن هذه الينابيع الحارة أنتجت سوائل فائقة
السخونة و محملة بالمعادن و المركبات الغنية بالطاقة التي زودت التفاعلات
الكيميائية اللازمة لنشوء الحياة بما يلزمها من الطاقة و قد طورت هذه الثرموفيلات
جزيئات ال DNA و البروتينات كما أن هذه الكائنات
ابتكرت و سائل لتسخين الضوء الشمسي لإنتاج الغذاء و الأوكسجين و لكن ذلك لم يحدث
هكذا و بدون مشاكل فالخلايا البدائية قد تعرضت لمشاكل بيئية كبرى هددت وجودها و
بالتالي اقتضى الأمر تكيفاً و اصطفاءً لاستمرارية مكتسبات الحياة الأولى و تطورها
فكيف حدث ذلك ؟
في الواقع لم تكن للخلايا الأولى نواة و لا عضيات ( و هي أجزاء
خلوية خاصة ذات وظيفة نوعية شبه عضوية ) فهي لم تكن على الأرجح إلا عبارة عن كيس
مجهري صغير مملوء بخليط من البروتين و الحموض النووية و كل هذا كان محاطاً بغشاء
يؤمن الحماية ضد مؤثرات العالم الخارجي غير المرغوبة كما كان يسمح بدخول جزيئات
صغيرة معينة تمد الخلية بالمواد الأولية و الطاقة اللازمة لعمل الروابط البروتينية
– الحمض أمينية التي لا تتوقف .إن غشاءً بسيطاً بدائياً كهذا الغشاء الليبيدي
الجزيئي يمكن تحضيره في أي وقت تجريبياً في المخابر و إذا ما درسنا خواصه نجد أنه
يسمح لجزيئات معينة بالنفاذ إلى داخل الخلية بينما يشكل حاجزاً منيعاً ضد جزيئات
أخرى , لذلك يمكن الاستنتاج بأن الخطوة الهامة التي مهدت في ذلك العمر المبكر
للحياة الطريق لاستقلال الخلية المفردة قد انطلق من تلك الخواص البسيطة نسبياً تلك
الخطوات التي مهدت الطريق لجميع الخطوات اللاحقة التي كانت نتيجة مبدأ الاصطفاء
الطبيعي الذي كان لديه حتى اليوم أكثر من 3 مليارات من السنين كي يؤثر في اتجاه
التحسين المتواصل لغلاف الخلية و مكوناتها , فالاصطفاء بدأ منذ أن بدأت الحياة
نفسها و عدم معرفتنا لخلايا أخرى اليوم غير الخلية المؤلفة من DNA و بر وتينات لا يعبر عن شيء في هذا
الصدد , فمن المرجح أن تكون قد وجدت خلايا ذات تركيبات مختلفة أخرى كان لا
بد لها من أن تخلي الساحة منهزمة أمام منافستها الأقوى , و قد قام داروين باستخلاص
قانون الاصطفاء الطبيعي انطلاقا من ثلاثة وقائع :
أولاً : ما عبر عنه مالتوس حين قال بأن فصيلة لا يخال دون تكاثرها
فإنها تتكاثر بمتوالية هندسية لنأخذ كمثل على ذلك زوجاً من الجراد تبيض الأنثى به
30 فرخاً بالمعدل أي 60 جرادة فإذا لم يحل دون ذلك حائل فإن 30 أنثى أخرى ستبيض كل
منها 60 بيضة في السنة التالية و هكذا في كل سنة يتكاثر عدد الجراد ثلاثين ضعفاً
إذا لم يحل شيء دون نموها فزوجاً من الجراد يتزاوج في العام 1991 ينبغي له أن ينتج
في سنة 601992 فرخاً تعطي بدورها 1800 فرخ عام 1993 ثم 40 ألف سنة 94 و هكذا لا
نصل إلى عام 2001 حتى يكون قد ولد أكثر من مليون مليار جرادة .
ثانياً : إن تكاثر الحيوانات ذاك بمتوالية هندسية لا يحدث في الواقع
أو عندما يحدث لا يتوالى قط لفترات طويلة حيث أن الكثير من الحيوانات تموت قبل أن
تتكاثر بينما يبقى غيرها على قيد الحياة و يتكاثر فثمة صراع من أجل البقاء حيث
يموت المنكسر لعدم توافر الغذاء أو بسبب الافتراس أو الإصابة بالأمراض .
ثالثاً : وجود الكائنات الحية غير المتشابهة إذ أن الكائنات التي
تنتمي لنفس النوع تتميز عن بعضها البعض بالتنوع و هذه الاختلافات تقضي أن الكائنات
التي تعيش على نفس الغذاء ليست بنفس القدرة على الحصول عليه و التي لها نفس
الأعداء ليست بنفس القدرة على النجاة منه و التي تتناسل فيما بينها ليست بنفس
القدرة على إيجاد قرين لها و عليه فالصراع على البقاء يبعد الأقل جدارة , و إذا ما
تناول الاصطفاء مؤهلات وراثية عبر الطفرات فإن ذلك ينعكس بتأثيراته على الجيل
التالي و تتصاعد تلك التأثيرات جيلاً بعد جيل و بهذا الشكل تتطور الأنواع و تتكيف
مع الظروف المعيشية أكثر فأكثر .
و قال داروين بهذا الصدد " إني أستعمل عبارة تنازع البقاء
بمعنى مجازي واسع يدخل فيه توقف حياة كائن على آخر و أيضاً و هو الأهم تمكين الفرد
من أن يخلق نسلاً فليس تنازع البقاء كفاحاً عضلياً فقط و إنما هو جملة كفايات أخرى
كثيراً ما تكون غامضة و ضئيلة القيمة و لكنها تظهر الحاصل عليها تميزاً و تفوقاً
على خصمه الذي قد لا يكون فرداً مثله بل ظرفاً خارجياً كالحر الشديد أو الجفاف و
ما شابه ذلك " , كما عبر الباحث جيرالد جويس **عن
التطور الدارويني موجزاً إياها في ثلاث خطوات :
1- يتوجب
على مجموعة من الأفراد امتلاك القدرة على التكاثر و ذلك بصنع نسخ لأنفسهم .
2- يتحتم
أن تحتوي هذه النسخ على نقائض قابلة لأن تورث أو على تغيرات تدخل التنوع على
الأفراد .
3- يجب
أن يكون هناك نظام من الانتقاء الطبيعي الذي يحابي بقاء الأفراد على حساب الآخرين
.
و قد اعتقد جويس بأن أساس التشكل الأولي للخلية الحية
كان مع الحمض النووي الرسول RNA حيث تستطيع قطعة من RNA أن
تستنسخ نفسها و بالتالي فقد ذهب هذا العالم على أنه و قبل نشوء أبسط أنواع
البكتريات ربما كانت الحياة تتألف من جزيئات ال RNA الموجودة في المياه الأولى و من ثم
حصل اصطفاء طبيعي ذاتي أدى لتكون جزيئات DNA و البروتينات التي أخذت أغلب المهام من
الحمض الرسولي RNA كونها أكثر تخصصاً منه .
و إذا ما تابعنا مشوارنا التطوري للحياة مطبقين المبدأ المذكور
نجد بأن الخلايا البدائية الأولى قد عانت من أزمة خطيرة هددت وجودها بالخطر هذه
الأزمة هي أزمة الغذاء فقد كانت الخلايا تستمد غذاءها من موادها نفسها بمعنى أنها
كانت تستمد الأساس الطاقي لها مما هو متوفر في محيطها من الجزيئات الكبيرة المشكلة
بطريقة لاعضوية و هنا فقد واجه ذلك التركيب نهم الخلايا المتشكلة و هنا بدأت مشكلة
الغذاء و الصراع التكيفي الأول و يمكنا إيجاز الحل الذي تم في هذه المرحلة وفق ما
يلي : كانت هناك مع مجموعة الخلايا المتشكلة خلايا احتوت بالصدفة على جزيئات
البورفيرين الموجودة بكثرة في المحيطات الأولى هذا الجزيء يحتوي على خاصية راتعة
هي امتصاص الضوء الشمسي و تحويله إلى طاقة و من هنا نفهم أن الخلايا الحاوية على
هذا الجزيء بدأت أول عملية تكيفية بحيث أنها بدأت تحضر غذاءها وفق مبدأ الاكتفاء
الذاتي أي مكتفية بما يرد إليها من ضوء الشمس , أما الخلايا التي لم تكن تحتوي على
مثل هذه الجزيئة فقد وجدت نفسها في صراع مصيري من أجل البقاء و بالتالي فقد بدأ
بعضها الذي لم يموت بالتهام بعض خلايا البورفيرين التي يبدو بأن بعضها لم يمت في
الخلية البالعة بل ظل يقوم بعملية التركيب الضوئي ليحدث تكامل بين الخليتين ( و
لعل هذا كان أول انفصال بيولوجي كبير بين مملكتي النبات و الحيوان ) . و الواقع
البيولوجي التكيفي الهام الثاني الذي ساهم في دفع عملية التطور هو ظهور الخلايا
المتحركة , فقد كان الكثير من وحيدات الخلية النباتية ذات طابع حركي و هذا بدوره
فرض على الخلايا المفترسة أن تكون متحركة لتأمين غذائها و إلا انقرضت و في هذه
المرحلة أيضاً مات عدد لا حصر له من الخلايا التي لا تسمح لها مؤهلاتها التكيف مع
هذه الخصائص المتبدلة بينما تمكنت بعض الخلايا القليلة الأخرى من الاستمرار حين
تحولت بالوقت المناسب عبر أداة مكنتها من الحركة السريعة و المطاردة و هذه الأداة
هي الهديبيات الحركية و هذه العضية أيضاً لم تحصل عليها الخلية شيئاً فشيئاً و
إنما أخذتها كقوة جاهزة وفقاً لمبدأ التعاون المتبادل حيث وجدت الخلية الجائعة
التي علقت على سطحها الخارجي حلزية شعرية لأول مرة وجدت نفسها فجأة تتحرك بسرعة
كافية لمنحها فرص أكبر في الغذاء . و بعد تلك المرحلة التكيفية تعرض الوجود
البيولوجي خطر جديد محدق هدد وجوده تمثل بتغير الوسط الناتج عن زيادة نسبة
الأوكسجين في الجو نتيجة عمليات التركيب الضوئي التي قامت به الخلايا النباتية
المخضرّة و في هذا الصدد قالت عالمة الأحياء الأميركية لين مارجوليس " إن
الغاز الذي أنتجته البكتريا الزرقاء ( و المقصود هنا الخلايا البورفيرينية ) قد
غيّر العالم " و من هنا جاءت أهمية جسيمات جديدة هي الجسيمات الكوندرية
التي مثلت الرد المناسب على خطر قاتل هدد الوجود البيولوجي على الكوكب و قد كان رد
الخلايا الحية على هذا التحدي الأكسجيني الجديد مشابهاً بالخطوط العريضة لما حصل
في حالات سابقة حيث ظهر طراز جديد من الخلايا و كان الطراز هذه المرة هو البكتريات
التي تمكنت بواسطة أنزيمات لم تكن معروفة من حماية نفسها من هذا الغاز الجوي
الجديد و عبر الصراع التكيفي و انهيار الخلايا غير المتكيفة استطاعت الخلايا
المتكيفة من أن تستغل النشاط الكيميائي الكبير للأوكسجين بما يخدم مصالحها و هذا
ما كان ليحدث لولا وجود الجسيمات التعاونية التي رافقت الخلايا المتكيفة أي
الجسيمات الكوندرية التي اعتبرت الأساس الأولي لنشوء كافة الأحياء التي تعتمد مبدأ
التنفس , و قد وصلنا إلى تلك المرحلة منذ حوالي المليار سنة حيث و عند هذه النقطة
نرى وجود خلايا محتوية على نواة و تجهيزات داخلية ( عضيات ) عالية التخصص .
متعددات
الخلايا و نشوء الأنواع :
قلنا أنه عند تاريخ التأقلم مع الأكسجين تكاثرت في البحار
أعداد كبيرة من وحيدات الخلايا المتخصصة غير أن الشروط الكيميائية و الفيزيائية
حالت من ناحية أخرى دون حصول الانقسام الخليوي ( أي تشكل كثيرات الخلايا ) و
بالتالي تضاعف جزيئات DNA بلا أخطاء كما أن الأشعة المتحررة من
التفكك الإشعاعي في الطبيعة الأرضية و الأشعة الكونية أدت إلى حصول تشوهات صبغية
طفيفة و قليلة في DNA الخلية و بذلك تغير معنى الرسالة
الواجب على هذه الجزيئات نقلها بمقادير قليلة و لكنها اعتباطية , و هكذا نشأت
الطفرات التي و من خلال لعبة متبادلة مع المحيط قامت بعملية التطور البيولوجي .
أما عملية الانتقال من مرحلة وحيدات الخلية إلى مرحلة كثيرات
الخلايا التي تعتبر حاسمة في تاريخ الحياة البيولوجية على الأرض تصبح واضحة عندما
نعلم أن ذلك لم يتم من خلال مفهوم الاتحاد الخليوي بالمعنى المعروف الحرفي للكلمة
, ففي الواقع تنشأ الكائنات الأعلى عن طريق انقسام خلية تدعى بويضة بشكل أن الخلايا
الناتجة عن الانقسام المتتالي لهذه الخلية لم تعد كما كان يحصل لدى وحيدات الخلايا
منذ المليارات من السنين تنفصل عن بعضها البعض و تشير جميع الدلائل على أن نشوء
متعددات الخلايا نشأ منذ حوالي المليار سنة و قد نشأ بنفس الطريقة المذكورة . أحد
البراهين على ذلك هو أن بعض المتعضيات لم تزل حتى يومنا هذا تحتفظ بهذه الطريقة
الانتقالية كالبكتريات و بعض الأشنيات الخضراء البدائية التي لا تزال تشبه الخلية
القديمة عديمة النواة . و عليه فقد كان الانتقال إلى مرحلة الكائنات متعددة
الخلايا يمثل خطوة هامة من خطوات التطور البيولوجي حيث نتج مبدأ تقسيم العمل بين
الخلايا التي يتألف منها الكائن المركب و زيادة التخصص تعني زيادة في التعقيد و
الارتقاء .و بعد هذه المرحلة يبدو أن التنوع قد بدأ يظهر مع ظهور الخلايا الجنسية
المختصة و الانتقال من مرحلة التكاثر اللاجنسي إلى مرحلة التكاثر الجنسي , يقول
العالم نول * :*"
مع نشوء الجنس حصلنا على الكثير من الاتحادات الجينية و بالتالي على الكثير من
احتمالات التغير " .
و المرحلة التالية من مراحل التطور البيولوجي العظمى تمثلت
بصعود بعض الكائنات الحية من الماء إلى اليابسة , لقد كانت الأشكال الحياتية
الأولى التي تكيفت مع الخواص الفيزيائية لمحيطها المائي السائل متعددة , فبما أنه
و على بعد قريب من الشاطئ يصبح الوصول إلى القاع أمر غير ممكن فقد كانت أفضل طريقة
لحل هذه المشكلة هي اليوم بمطابقة الوزن النوعي للماء مع الوزن النوعي للجسم و
لتحقيق هذا الهدف طورت الحياة حويصلات هوائية تملأ بالغازات الخفيفة و في مقدمتها
الأوكسجين نستطيع نفخها و تنفيسها كيفما نشاء و بذلك فقد اخترعت أداة مدهشة للعوم
و الغطس , و من البديهي أيضاً أنه كان يوجد منذ البداية متخصصات قاعية أي أشكال
تكيفت مع العيش في القاع على الأرض الصلبة و كان يوجد أيضاً عدد ممن العائدين أي
حيوانات عادت للعيش عائمة في الماء بعد أن ملّت العيش المتواصل في القاع عدة
ملايين من السنين و لم يزل بعض هذه الأنواع قائم حتى اليوم كالروخا و هو أحد أنواع
القرش فهو يعبر عن ذلك التاريخ ليس فقط بشكله المسطّح الناتج عن التماس مع الأرض
القاعية و إنما بوزنه النوعي الأثقل من الماء الأمر الذي يعتبر غير عادي بالنسبة
للأسماك و قد اضطرت هذه الأسماك لكي تبقى عائمة أن تستخدم الأطراف الخارجية لجسمها
كأجنحة طيران حيث تقوم بتحريك تلك الأجزاء باستمرار بطريقة اهتزازية و ذلك تعويضاً
عن فقدانها لحوصلاتها الهوائية خلال فترات حياتها القاعية و بما أن هناك قانون عام
في النظرية التطورية ينص على أن العضو الذي يضمر لا يعود مرة أخرى حتى و إن عادت
الظروف القديمة التي كان يعمل بها نجد أن ذلك النوع من السمك اضطر بعض ضياع
حويصلاته لاستخدام وسيلة تكيفية أخرى تمثلت بالطيران فبمجرد توقف حركتها
الاهتزازية تهبط للأسفل فوراً , غير أن هذا الخضوع غير المشروط للظروف السائدة أدى
على اليابسة إلى نتائج شديدة الغرابة فهنا وجدت الحياة نفسها و لأول مرة في محيط
تعتبر التأرجحات الحرارية من خصائصه الأساسية و في الواقع لم يعرف السبب المباشر
في صعود بعض الكائنات الحية من بيئتها المائية المستقرة إلى بيئة اليابسة الأشد
صعوبة و اضطراباً لعل السبب كان غذائياً أو استكشافياً أو غير ذلك و لكن ما نعرفه
أن خصائص تلك البيئة الجديدة كانت متذبذبة حيث تبدل حراري متواصل يحدث وفق إيقاع
منتظم بين الليل و النهار و ينتقل من الحار إلى البارد تبع الفصول دون توقف و من
البديهي أن هذه التأرجحات فذ شملت كل الكائنات على سطح اليابسة و هذا يعني أن نشاط
تلك الكائنات بدأ ينخفض ليلاً حيث يبرد الطقس و بعد ذلك في صباح اليوم التالي يعود
النشاط من جديد مع بزوغ الشمس و الدفء و لم حتى يومنا هذا نلاحظ هذه الحالة عند
الضبّ و السمندل و يعود السبب في ذلك إلى أن هذه الحيوانات باردة الدم آو متبدلة
الحرارة , فخلال الحقبة الزمنية الطويلة التي امتدت من خروج البرمائيات الأولى من
الماء و حتى نهاية عصر العظائيات أرغمت الأرض بسبب دورانها جميع الكائنات
على هذا الإيقاع المنتظم في الليل نرى أن جميع سرعات التفاعلات الكيميائية تتناقص
لانخفاض درجة الحرارة , لقد ظلت الأمور على هذا المنوال فوق اليابسة حوالي 300
مليون سنة فهل ننام ليلاً لهذا السبب ؟ نحن نعرف أن الكائنات البحرية لا تنام إلا
قليلاً لعدم وجود التفاوت الكبير في بيئتها فهل نحن ورثنا تلك التركة التي خلفها
لنا أجدادنا الصاعدون إلى اليابسة ؟ لعل للأمر صلة بذلك . و مع ذلك فإن هذا الوضع
السلبي تجاه الطبيعة قد تغير فجأة عندما ظهرت في نهاية تلك الحقبة كائنات جديدة
فقارية كان التطفّر قد منحها خاصية انقلابية جديدة ترتبت عليها تبعات حاسمة حيث
قامت إنزيمات جديدة بحرق الغذاء الذي يلتهمه الحيوان و بالتالي فقد ولد مولد جديد
للطاقة و عليه تحولت الطاقة الفائضة التي لم يستهلكها نشاط الحيوان بالضرورة إلى
حرارة بدأت تمد الجسم بالحرارة و النقطة الحاسمة هنا تتجلى بالقدرة على المحافظة
على حرارة ذاتية ثابتة للجسم , صحيح بأن هذا الوضع يكلف المزيد من الطاقة و لكن
الأوكسجين المتوفر بغزارة كان يؤمن الطاقة بشكل كاف, و عليه و لأول مرة منذ 300
مليون سنة أضحت الحياة بصدد التحرر من نير الخضوع للتقلبات الحرارية في محيطها و
بالتالي تحققت قفزة أخرى من قفزات التطور الكبرى بأن نشأت الذات المستقلة عن
تقلبات الظرف المحيط هذا ما حصل مع أصحاب الدم الدافئ أو ثابتات الحرارة و على هذا
الأساس وقفت الحياة منفصلة عن الخضوع التام للمحيط , غير أن هذا الانفصال المبدئي
الضروري يجعل من الضروري أيضاً إقامة قنوات اتصال ثانوية خاضعة للتحكم تتيح التصرف
الحر و الاختيار دون تحد بأشكال جديدة من التبعية و من هنا نشأت الحواس الموجودة
حتى عند أبسط الكائنات الحية لكي تقيم نوعاً من الاتصال المقنن اللازم مع المحيط ,
و يبدو أن الثبات الحراري كان بدوره مقدمة لا غنى عنها لتحقيق مبدأ الاستقلال على
مستوى أعلى , إن ثبات الحرارة الذاتية للجسم هو مقدمة أساسية لتطوير القدرة على
التجريد الذي يمثل الشكل الأقصى للاستقلال عن المحيط أي أن ثبات الحرارة هي واحدة
من الشروط الجوهرية القادرة على التعامل الموضوعي مع الوسط الخارجي , و من هذا
المنظور يتضح لنا أنها ليست مصادفة أن يتواجد المركز الذي ينظم حرارة جسمنا في
أقدم جزء من دماغنا .
و قد قام داروين بتحديد العوامل الطبيعية التي يؤدي فعلها إلى
التطور البيولوجي في الكائنات الحية و قسمها إلى خمس مراحل وفق الآتي :
× الوراثة : و
محصلها أن الشبه يأتي بمشابهه فالسنانير لا تلد كلباً بل سنانير أي أن صغار كل نوع
تشابه آباءها و ذلك في النبات كما في الحيوان .
× التحول
: أي أن أفراد كل نوع تتشابه و لكن لا تتماثل أي لا تكون نسخة مطابقة لأصولها فهي
تشابه آباءها و لكن لا تماثلهم .
× التوالد : و
ينص على أن ما يولد من النبات أو الحيوان أكثره لا يقدر على البقاء فالطبيعة تسرف
في الإيجاد كما تسرف في الإفناء و من هنا ينشأ العامل الرابع .
× الصراع على
البقاء : و هو عامل مضطرد التأثير غير منقطع الفعل فكل نبات أو حيوان يبرز إلى
الوجود ينبغي له أن يسعى إلى الرزق و أن يجاهد في سبيل ذلك و عليه يغدو الصراع على
البقاء أحد العوامل المهمة في التطور البيولوجي , ففي أعقاب عمليات التغير و توارث
الصفات و الانتخاب الطبيعي و تنازع البقاء تتكون لدى النباتات و الحيوانات البرية
العديد من الصفات المتكيفة و بذلك تحافظ الأنواع على بقائها , و كمثال على ذلك نرى
أن أنثى سمك القرش و الورنك تضع بيضة واحدة تتميز بقشرتها السميكة و بالخيوط
الخاصة التي تثبتها في قاع الماء , كما يضع طائر السون الذي يعشش فوق الصخور في
الأماكن الشمالية الباردة بيضة واحدة تتميز بقشرتها الصلبة و شكلها المخروطي حيث
يكون مركز الثقل في منتصف البيضة و ذلك يسمح للبيضة أن تدور حول محورها دون أن
تسقط من المرتفع الذي وضعت فيه , أما الكائنات الأخرى و التي لا تملك وسائل خاصة
تساعدها على حماية أجنتها نراها تلد العديد و الكثير من البيوض أو تلد الكثير من
الولادات , فنجد أنثى الفأر مثلاً التي تستطيع و في ولادات متواصلة مدة أربع أعوام
من أن تغطي اليابسة أما بكتريا اللاكتيكي فتعطي خلال يومين 50 مليار فرد .
وفي رأي داروين ينقسم تنازع البقاء إلى ثلاثة أنواع :
أولها – تنازع مع قوى الطبيعة , و ثانيها – تنازع بين الأنواع , و ثالثهما – تنازع
بين أفراد الجنس الواحد .
أما التنازع مع قوى الطبيعة فهو عبارة عن العلاقة المتبادلة
المعقودة بين الكائن و الظرف المحيط و كمثال على ذلك نرى نباتات الصحراء التي تكون
أوراقها ذات نتوءات و أشواك حتى تقلل من تبخر الماء مقارنةً مع نبات التندرا و
المناطق العالية التي تكون قصيرة لكي تتمكن من مقاومة الرياح الباردة القوية و
استغلال الدفء الموجود في طبقات الجو السفلى .
أما التنازع بين الأنواع فهو عبارة عن التطاحن الذي يتم بين
الأنواع المختلفة أي بين مختلف أنواع النباتات مع بعضها البعض و بين النباتات و
الحيوانات آكلة العشب و بين هذه الحيوانات و الحيوانات اللاحمة … الخ , وليس من
النادر أن تكون الأنواع النباتية متضادة حيوياً فمن المعلوم أن نبات الشيلم الشتوي
يؤذي نمو القمح الشتوي كذلك نمو القرنفل يؤذي نمو الورد البلدي , و تنازع البقاء
هذا لا بد أن يؤدي إلى استحداث مجموعة صفات تكيفية جديدة عند الكائنات الحية ,
كمثال على ذلك نرى كيف تكون بعض الحيوانات نفسها على نحو مشابه لتكوين البيئة التي
تعيش فيها و ذلك للحماية من الأعداء كحشرات فرس النبي الشبيهة بأوراق الأشجار التي
تعيش عليها , وتمتلك صغار أسماك القرموط التي تعيش بالقرب من سواحل إفريقيا
الغربية تقليداً جماعياً فهي تتجمع عند شعورها بالخطر في كتلة كروية الشكل جاعلة
ذيولها إلى الداخل و رؤوسها الحادة إلى الخارج .
أما التنازع داخل النوع فهو التنافس الذي يحصل بين أفراد النوع
الواحد من أجل الحصول على الغذاء أو الضوء أو الهواء.و هذا يقودنا بدوره إلى
العامل الخامس الذي تحدث عنه دارون و هو
× بقاء الأصلح
: فالأفراد التي تتزود في بنائها بقوة أو حيلة أذكى أو قدرة على المقاومة أكبر
تكون أكثر قابلية للبقاء و التوالد حيث تورث صفاتها للنسل من أعقابها .
كما أكدت نظرية التطور على فكرة هامة هي فكرة الرباط العضوي
بين الكائنات الحية حيث ارتكزت على ثلاث نقاط أساسية :
1. إننا
البشر و كافة أنواع الحيوانات مما دون الإسفنج و ما يعلو عليه من الحشرات و
الأسماك و الثعابين و الطيور و السباع و البهائم نشترك في أصل واحد و بيننا و بين
هذه الحيوانات قرابة من نوع ما تختلف في قربها و بعدها تبع لقربنا و بعدنا من نوع
حيواني معين .
2. إننا نحن
البشر بشكل خاص ننتمي إلى أسرة متعددة الأنواع كالطرسيوس و الليمور و القردة و هذه
هي الأسرة الكبرى , أما العائلة الصغرى التي ننتمي إليها فهي مجموعة القردة العليا
التي نجتمع و إياها بقرابة وثيقة قي سلف واحد مشترك .
3. إن التطور
لم ينقطع أو يقف ذلك أن جميع الأحياء حيواناً كان أم نباتاً لا يزال في تغير جيلاً
بعد جيل و التغير يتراكم حتى يتحول حيث ينقلب الكم إلى كيف فيصير تطوراً .و رغم
حدوث اجماع بين علماء البيولوجيا فيما يخص مسألة الأصل الواحد للكائنات الحية إلا
أنة لا تزال تثار بعض الإعتراضات فيما يخص مفهوم بقاء الأصلح ( و هو تعبير صدر عن
هربرت سبنسر و ليس عن داروين ) و مفهو م التغييرات التدريجية الناتجة عنه حيث يرد
بعض علماء البيولوجيا استمرار و ثبات الجينات إلى عامل المصادفة و ليس للانتخاب
الطبيعي كما يردون ظهور الأنواع الجديدة إلى التغيرات الهائلة التي تطرأ على
كروموسومات الكائنات العضوية الموجودة بالفعل دون أن يكون لذلك أي علاقة بقدرة تلك
الكائنات على الإستمرار في الحياة أو صلاحيتها للبقاء ويكاد هؤلاء العلماء يجمعون
من خلال تطور الدراسات الميدانية الإحفورية على أن الأنواع الجديدة لم تكن تظهر
نتيجة لتراكم التغيرات الصغيرة خلال فترات طويلة جداً و لكنها تظهر فجأه ثم تستمر
في الوجود دون أن يطرأ عليها أي تغيرات كبيرة حتى تندثر و تختفي تماماً لكي يظهر
من بعدها و بطريقة فجائية أنواع أخرى تختلف عنها اختلافاً كبيراً دون أن يكون هناك
مقدمات أو شواهد في الأنواع القديمة تبشر بظهور الأنواع الجديدة الأكثر تطوراً و
تمهد لها .هذا ما تفعله الطفرات التي يمكن أن تحدث تحت تأثير عوامل البيئة
الخارجية المختلفة التي تسبب خللاً في التركيب الوراثي أو في ترتيب الوحدات
الوراثية أو تغيير ترتيب بعض الجينات أو مجموعة كاملة منها و قد تكون الطفرة نافعة
أو ضارة أو عديمة النفع و الضرر و قد تحدث الطفرة طبيعياً أو ذاتياً من تلقاء
نفسها تحت تأثير الاشعاع الطبيعي للأشعة الكونية الساقطة على الأرض و كذلك نتيجة
للاتحلال الذي يحدث للمواد ذات النشاط الاشعاعي الموجود في الأرض نفسها , و تنتشر
الطفرات الطبيعية في الانسان بقدر كبير فمثلاً يوجد في كل إنسان في المتوسط أحد
الجينات الطفرية الذي لم يكن موجوداً في أجدادنا و أبسط حالات الطفرة في الانسان
هو قلة ظهور الصفة السائدة للآباء في أحد الأبناء , كما يمكن احداث الطفرة صناعياً
. و بالطبع فإن ذلك لا يضعف الأساس المنهجي العلمي الذي انطلقت منه النظرية
التطورية بقدر ما يسهم في اعادة تنظيمها و تدعيمها باللأسس العلمية الحديثة .
فإذا ما حاولنا تأريخ الدراما البيولوجية تبع
لتلك المبادئ نتوصل للآتي :
لقد بدأت الحياة من نشوء الخلية المنفردة الحية الناتجة عن
عملية الاصطفاء الكيميائي الذي يعتبر حجر الأساس في بداية الشرارة البيولوجية و
بعد ذلك تم الانتقال إلى مرحلة التمايز الخليوي الأول بين مملكتي النبات و الحيوان
الذي يعتبر الانفصال البيولوجي الأول بين مملكتين و بعد ذلك تم الانتقال من مرحلة
وحيدات الخلايا إلى مرحلة متعددات الخلايا حيث بدأ التخصص في العمل الخليوي و أعقب
ذلك نشوء الحيوان الدودي الصورة الذي منه الرخويات كالمحار و الحلازين و الحبارات
ثم ظهرت الشوكيات كنجوم البحر و قنافذ البحر و خيار البحر و بعدها ظهرت القشريات
كالسراطين و الأربيات ( الجمبري ) و هذا مهد بدوره لحدوث القفزة التطورية الكبرى
بظهور الجنسين ثم باتخاذ الحيوان شكلاً ذا جانبين فالإسفنج مثلاً لم يكن له شكل
منتظم و بالتالي يعتبر ظهور الحيوان ذا الجانبين كالديدان خطوة كبيرة في اتجاه
التطور حيث أدى ذلك إلى تسهيل الحركة فجعل التنازع و بقاء الأصلح أكثر حدة و سرعة
و بالتالي التمايز النوعي بين الكائنات أكثر تنوعاً , و بعد ذلك ظهرت مجموعة جديدة
من الحيوانات هي عشائر ذات صفات مستحدثة دل وجودها على وقوع انقلاب كبير في سير
الحياة , فكل الحيوانات التي ذكرناها كانت رخوة القوام لينة الأجسام معدومة العظام
و لو أن بعضاً منها كالسراطين و المحار قد اختصت بأصداف تقي ذواتها من العطب , أما
الصورة الجديدة فكان لها حبل متين ممتد على طول الجسم يسمى بالرتمّة و كان ظهور
هذا الحبل أول مدرج من مدارج التطور نحو تكوين الفقار المؤلف من أجزاء عظمية كل
منها تسمى فقارة , أما أولى الحيوانات ذوات الرتمّة و التي تسمى بالرتمّيات فكانت
سهمية الشكل و مائية و من أشهرها الإطريف المسمى أيضاً بالسهيم و منه نشأت الأسماك
ذات الهياكل العظمية الصلبة كالصمون و القد و الفرخ كما تفرع من الحريب صورة أخرى
كالجلكيات و هي من الأحياء التي ليس لها حبل ظهري إلا عندما تكون صغيرة , و
الأحياء التي ظهرت بعد تلك المرحلة جميعها من الفقاريات و بذلك انقسمت المملكة
لحيوانية إلى فسمين عظيمين هما الفقاريات و اللافقاريات و ما تتميز به الفقاريات
أنها تستند على اختلاف درجاتها إلى الغريزة و لكن مع شئ من الوجدان المكتسب نتيجة
تشكل بدايات الجهاز العصبي , و قد أعقب ذلك ظهور الأسماك المتطورة التي تستطيع أن
تعيش في الطين اللازب إذا ما غاض في الماء في فصول الجفاف و بدلاً من أن تتنفس من
خياشيمها كبقية الأسماك نشأ لها مع هذا التغير في الوسط جهازاً آخر هو عبارة عن
رئات أولية تحولت عن عوامات السبح , و بذلك تمتعت تلك الأحياء بجهازين للتنفس و
منها نشأت البرمائيات كالضفادع التي كانت من أوائل الفقاريات الصاعدة إلى اليابسة
ومن البرمائيات نشأت الزواحف كالعظايا و التماسيح و الثعابين التي تكيفت مع الحياة
الأرضية بشكل أفضل إذ أنها و بعكس البرمائيات ليست بحاجة إلى وسط مائي للتكاثر و
قد هيمنت تلك الزواحف على اليابسة لفترة طويلة , و من فرعها نشأت الطيور التي
تعتبر حتى الآن من الزواحف الطيّارة , و غاية ما حدث هو أن ساقيها الأماميتين
تحولتا إلى جناحين و أكثر الطيور تعيش مدة طفولتها و في طرف أجنحتها مخلب أو ظلف و
قد يبقى معها بقية حياتها مما يدل على أن ساق كانت موجودة لديها يوماً ما و صغار
الدجاج تستعمل أجنحتها للاعتماد عليها في المشي كما تستعمل الزواحف ساقيها
الأماميتين , كما أن الطيور ما تزال تتعلم الطيران تعلماً لا طبعاً أو غريزة
كالأسماك مثلاً مما يدل على قرب عهدها بالطيران , بالإضافة لذلك نجد أن أجنة
الطيور و الزواحف تتشابه و تتماثل حتى تفقّس البيض تقريباً , هذا بالإضافة لكون
حياة الزواحف و الطيور الفسيولوجية متشابهة لحد يمكن أن يقال أنها حياة واحدة فيما
بينهما . و بالإضافة للطيور نشأ عن الزواحف فرع آخر هو فرع ذرات الثدي التي تغذي
صغارها بسائل اللبن و لذلك تسمى باللبونات و قد كانت اللبونات البدائية كالزواحف
تضع البيوض و عندما يفقس البيض تقوم يإرضاع صغارها , ولا يزال بعض تلك اللبونات
موجود حتى يومنا هذا كالصلول و النفطير و كلاهما يعيشان في أستراليا فقط , و من
الثدييات نشأت الكيسيات أو ذوات الكيس كالكنغر و قد تفرع عنها شعب متفرقة من
الأنواع البيولوجية أهمها من وجهة النظر البشرية ما يسمى ( الليامير ) و التي منها
نشأت السعادين ثم القردة العليا فالبشريات التي أثبتت شيئاً فشيئاً تفوقها بسلسلة
من الاكتمالات أبرزها تجميع الخبرة المكتسبة بواسطة الأفراد و المشاركة في المعرفة
التي مهدت لبزوغ الثقافة فالحضارة . و لا بد من التأكيد على أن مرحلة التطور و
الانتقال من الماء إلى اليابس أعقبها مرحلة ردّة لدى بعض الأنواع من اليابسة إلى
الماء كالقيطس الذي عاد إلى الماء بعد أن كان يعيش فوق اليابسة حيث انقلبت يداه
إلى زعانف و لا تزال أصابعه الخمسة كامنة في كل زعنفة من زعانفه , و بعض الحيوانات
الأخرى نزلت إلى الماء و لكنها لم تصل بعد إلى مرحلة الحياة المائية الكاملة كفرس
النهر الذي يعيش في الماء و على اليابسة , و الفقمة التي تعيش طيلة حياتها في
الماء و لكنها وقت اللقاح و الولادة تخرج إلى البر فهي لم تبلغ مبلغ القيطس الذي
يعيش و يلد في الماء .
و قد تحدث داروين عن التباين الذي ينشأ بين الكائنات و الأنواع
بشرح أنواع التباين أو التغير حيث أكد على أن التباين يظهر حتى بين خلف أبوين أي
بين الأخوة و الأخوات فلكل فرد صفات ذاتية محددة له يسميها داروين التغير الذاتي
أو الفردي , فلا يوجد على سطح الأرض صورتان متشابهتين تماماً , بالإضافة لذلك توجد
تغير آخر ناتج عن اختلاف المناطق الجغرافية تبعاً لتغير البيئة و هو ما يسميه
بالتغير البيئوي , و إذا بدأ كائن بالتغير باتجاه معين فإن تغيراً يحدث في كل
الأجيال التالية في المستقبل في نفس الاتجاه طالما لم تتغير الظروف المسببة لهذا
الانحراف و قد أطلق داروين على هذا التغير بالتغير المستمر , و كنتيجة لهذه التغيرات
المجتمعة عبر تتالي الأجيال فإن تغيراً كبيراً يحصل , و هذا التغير المستمر هو
نتيجة العلاقة المتبادلة بين الكائن و البيئة و بين الكائن و ظروف حياته , كما
يؤدي تغير بعض الأعضاء إلى حدوث تغير بالأعضاء الأخرى و هو ما يسمى بالتغير النسبي
, فتغير الأطراف مثلاً تحت تأثير البيئة المباشر عند الفقاريات زوجية الأصابع يؤدي
بالنهاية إلى تغيير تركيب معدتها و قرونها . و تحصل في أعقاب مثل هذا التغيير
أحياناً تغييرات نافعة أو ضارة و يسمي داروين التغير الذي يحدث عند ممثلي مجموعة
متشابهة كاملة من الكائنات تحت تأثير الظروف المناخية و الغذائية بالتغير المحدد ,
فمثلاً ثؤثر كمية الغذاء و نوعه على النمو أما الظروف المناخية فتؤثر على سمك
الجلد و كثافة الصوف و ما إلى ذلك . و هذه التغيرات كلها يمكن أن تكون بعد ذلك
متناقلة وراثياً أو على العكس لا تنقل وراثياً و التغيرات التي تنقل وراثياً هي
الشروط اللازمة للتطور و هذه التغيرات تلعب الدور الأساسي في تكون النوع أما
التغيرات التي لا تنقل وراثياً فهي على العكس لا تلعب أي دور في تكون النوع و ليس
لها أي أهمية حيث لا تنعكس في الأجيال المقبلة .
و لكن كيف يمكن أن يلتقي علم الوراثة بتلك التغيرات التطورية
الداروينية ؟ إن الجواب على هكذا سؤال سرعان ما يتضح عندما نعلم أنه نتيجة لعوامل
بيئية ووراثية معينة قد تحدث طفرة ما , إن هذه الطفرة التي تخص فردأً بعينه يمكن
لها أن تختفي أو تستمر و ذلك متعلق بتوافر الشروط المواتية التي إذا ما توفرت قد
تؤدي إلى تمكين الطفرة الجينية بحيث تتمكن من إقصاء كافة الجينات الأخرى لكي تحل
محلها و بالتالي لكي تؤدي لتغير كيفي يثبت كصفة جديدة للنوع كله . و الذي يحدد
حدوث الاصطفاء للنوع بأكمله هو مقدار القيمة الاصطفائية التي تزداد بمقدار ما يكون
الأفراد المزودين بنمط جيني معين أقدر على مقاومة عدوانية البيئة و بالتالي أقدر
على البقاء و على الإنجاب و الاستمرارية التي ستؤدي إلى نقل الجينات إلى الأجيال و
بالتالي تقوم بعملية تفضيل اصطفائي حيث يزداد ورودها في الجيل الثاني في حين أن
الجينات السيئة تكيفياً ستختفي شيئاً فشيئاً و هذا ما وضحه الباحث البيولوجي فيشر
عندما قال : " توضح هذه النظرية ( و هي النظرية المذكورة و المسماة بالنظرية
الأساسية للاصطفاء الطبيعي ) أن ازدياد القيمة الاصطفائية الوسيطة في جماعة ما
تتناسب و تغير القيم الاصطفائية لدى مختلف الجينات " و بالتالي فإن الجينات الأصلح
للبقاء بالنسبة للبيئة ستبقى بينما تختفي الجينات الأخرى و شيئاً فشيئاً يحصل
تقارب الجماعة من النموذج المثالي و عليه تكون نهاية الاصطفاء في بيئة محددة هي (
تجانس الفئة ) .
و الكود الجيني ( الراموز الوراثي ) للإنسان يتألف من نحو
ثلاثة بلايين من قواعد ( أسس ) ال DNA و
لكن 10 إلى 15 بالمئة من تلك القواعد يشكل الجينات االمخططات التي تستعملها
الخلايا لبناء البروتينات , و في الإنسان – و كثير من الكائنات الحية – يؤدي بعض
تسلسلات القواعد المتبقية مهام حاسمة كامساعدة على تفعيل الجينات و كظمها و في
تماسك الصبغيات ( الكروموزومات ) و لكن الكثير من ال DNA يبدو
بلا هدف واضح حتى ليطلق عليه البعض اسم السَّقْط
دلائل الأصل
المشترك :
لقد قدمت لنا البحوث الجيولوجية وثائق هامة لمعرفة
التتابع الزمني للتطور البيولوجي للأنواع , فمن المعروف أن القشرة الأرضية مؤلفة
من مجموعة من الطبقات التي يزداد زمنها بازدياد عمقها و في هذه الطبقات نجد
متحجرات للنباتات و الحيوانات مختلفة كماً و نوعاً باختلاف الطبقات بشكل
يلائم الموكب التطوري . و إذا ما رتبنا هذه الطبقات من الأقدم إلى الأحدث و
استقرأنا أحياءها التي تعيش في كل طبقة على حده نجد أنها تبلغ ثلاث عشرة طبقة
تكونت في خمسة دهور يلائم كل منها مستوى التطور و التخصص لدى الكائن الحي و
يمكن أن نصل من ذلك التقسيم إلى ما يلي :
1. الدهر القديم : و فيه
ظهرت الحياة الأولى المؤلفة من خلية واحدة مثل الألجة و هي طحلب بحري لا ورق و لا
جذع و لا جذر له , كما ظهرت الخلية الحيوانية الأولى و قد كشف عالم البدائيات
ويليام عن حفريات مجهرية تعود إلى 3,46 مليار سنة في أستراليا و هذا أقدم كائن حي
أكتشف حتى الآن , أما عمق طبقات هذا الدهر فتبلغ 70 ألف قدم .
2. الدهر الأول : له 3 طبقات ثخانتها
42 ألف قدم و فيها نرى عدة متحجرات للإسفنج و المحار و المرجان و القشريات (
كالجمبري و السرطان ) و السمك كما نجد حيوانا صدفياً ذا خلية واحدة لا بد أنه كان
استمراراً للدهر السابق .
3. الدهر الثانوي : له 5 طبقات
ثخانتها 15 ألف قدم و فيه نجد الصنوبر و النخيل و الزواحف و الطيور و الحيوانات
الكيسية كالكنغر .
4. الدهر
الثلاثي : له 3 طبقات ثخانتها 3 آلاف قدم و نجد فيه متحجرات للثعابين و القياطس و
القردة و الأشجار الموجودة الآن
5. الدهر الرباعي : و فيه نجد
الطبقة الأخيرة التي سماكتها 600 قدم و نجد فيها متحجرات للماموث و ذوات الأربع
الصوفية و الإنسان البدائي .
من ذلك الترتيب نستنتج أن التنوع الإحيائي يزداد مع الطبقات
الأحدث فلا نجد الإنسان إلا في الطبقة الأحدث مع أننا نجد الإسفنج في جميع الطبقات
و نجد أن الزواحف قد سبقت الطيور و اللبونات كما نجد أن أول ما يظهر من الأحياء في
الطبقات العميقة هي في الواقع الأحياء الأبسط تركيباً و الأقل تعقيداً . كما أن
المتحجر من الحيوان يدلنا على الصلة التي تصل بينه و بين ما قبله , فمثلاً متحجرات
الطيور نجد لها أسناناً مثل الزواحف و متحجرات الفرس نجد لها أصابع في قدميها بدل
الحافر .
أما من الناحية البيولوجية الكيميائية نجد الأمر يكاد يكون
متطابقاً تماماً مع النظرية التطورية ,حيث تشترك جميع الأحياء في نظم البيولوجيا
الجزيئية فلديها جميعها 20 حمض أميني يدخل في تركيب البروتينات التيب تحتوي على 50
– 55 % كربون و 25 – 30 % أوكسجين و 15 – 19 % آزوت و 7 % هيدرجين و 0,5 – 2.5 %
كبريت و هناك نيكلوتيدات أربعة تفيد في تجميع الحموض الأمينية و باختلاف تعاقبها
تختلف الأجناس و قد يطرأ تعديلات على بعض التعاقبات تؤدي إلى تغيرات مورفولوجية
المتعضية أو فيزيولوجيتها و تشترك الكائنات في تطابق آليات التركيب لهذه الجزيئات
و في تكاثرها و يقول الباحث الفرنسي جاك نينو بأن الشغل الشاغل الآن هو مقارنة بنى
الجزيئات , فمثلاً الهيموغلوبين و هو البروتين الذي يؤمن نقل الأوكسجين إلى
الخلايا يتطابق عند البشر و الغوريلا باختلاف حمض واحد من الحموض المائة و الخمسين
الذي يتألف منها هذا البروتين و بالتالي يكون الغوريلا أقرب إلى الإنسان من القرد
البندر و بهذه الطريقة يمكننا أن نقارن الإنسان بأنواع اكثر بعداً كما يمكننا
ملاحظة التماثلات في تعاقبات البروتين المأخوذة من الأنواع الأكثر بعداً , و عليه
يمكن الاستنتاج بأن سائر أنواع الكائنات الحية هم أولاد عمومة و إذا كان لنوعين
هيموغلوبين متشابهين يجب أن نعتبر بأنهما افترقا منذ فترة قصيرة منطلقين من سلف
مشترك ,كما نجد أن الإنزيم المسمى "سيتوكروم سي " و هو إنزيم
تنفسي يتوسط لانتقال الأكسجين الذي يحمله الدم إلى الخلية يتألف عند جميع الكائنات
الحية من 104 حلقات و مما يثير الفضول هو أن عملية داخل الخلية لدى كل الكائنات
الحية من الإنسان حتى خميرة الخبز تتم بتحريض من الإنزيم نفسه و هذا الأمر لا
ينطبق على ذلك الإنزيم و حسب و غنما على جميع الإنزيمات الأخرى , و مما يستدعي الانتباه
هو أن الفروق في صفوف الحموض الأمينية بالنسبة لهذا الإنزيم تتزايد تبع بعد
القرابة بين الأنواع من الأعلى للأسفل فيختلف إنزيم سيتوكروم سي لدى الإنسان عنه
لدى القرد الهندي بحمض أميني واحد يرتفع العدد إلى 11 حمض أميني بين الإنسان و
الكلب و هكذا يزداد الاختلاف تبع ابتعاد القرابة و هذا بالطبع يؤكد المفهوم
التطوري للأنواع الناتج عن جذر واحد .و بناء على هذا المفهوم التشابهي بين نوع و
آخر و اعتمادا على الإنزيم المذكور و دراسة خواصه عند كل كائن توصل العلماء عبر
حسابات معقدة مدة الفواصل الزمنية التي جمعت الإنسان بالأنواع الحيوانية الأخرى
الأقرب فالأبعد و قد بينت الحواسيب الإلكترونية أنه قد كان لنا نحن البشر و
الدجاجة قبل 280 مليون سنة سلف واحد مشترك و إن 490 مليون سنة انقضت عن انفصالنا
عن البرمائيات و الأسماك و أنه قد وجد على الأرض قبل 750 مليون سنة كائن لم يكن الجد
المشترك للفقاريات و حسب و لكن للحشرات أيضاً , هكذا تم وضع شجرة أنساب الأحياء و
يمكننا القول حسب نينو بأنه و في كل مرة نقارن فيها بين جزيئات نجد مخطط تسلسل
الأنواع ذاته الذي تم استنتاجه بالتشريح المقارن .
و في المجال البالنتولوجي (الإحفوري ) فقد تم اكتشاف وجود
الأشكال الوسيطة بين تطور و آخر في النوع الواحد و هذا بالطبع أمر يدعم نظرية
الأصل الواحد للحيوانات , فنستطيع في الوقت الحاضر التكلم عن الأشكال العضوية و
مجموعاتها الفردية و هذا أصبح ممكناً بعد العثور على بقايا أعداد كبيرة من أنواع
الحفريات الوسيطة للنباتات و الحيوانات التي عاشت في العصور و الفترات الجيولوجية
المختلفة و التي تبين أنها على اتصال بالمجموعات المختلفة للكائنات الحية التي كان
يعتقد أنها منفصلة عنها . و مما يشهد على وحدة المنشأ النباتي الحيواني هي كائن
اليوجلينا و غيرها من السوطيات الخضراء الأخرى , كما تشير الوقائع إلى نشوء
الكائنات متعددة الخلايا من الكائنات وحيدات الخلايا و تعتبر الجلكيات الدنيئة مثل
النصفحبليات و المغلفيات و الحيوانات عديمة العلبة المخية أشكالاً وسيطة بين
الفقاريات و اللافقاريات , كما أدى تطور الحيوانات المائية إلى تكوين الحيوانات
الفقارية الأرضية مثل الحيوانات الغضروفية و الحيوانات ذات الخياشيم و الرئات كما
تعتبر البرمائيات المنقرضة سيتجوتسيفال شكلاً وسيطاً بين الأسماك من ناحية و
البرمائيات من ناحية أخرى , وقد نشأ ذلك الحيوان من أسماك مسماة كروسوبترايجي فهو
شديد الشبه بها في هيكله الخارجي و لكنه يختلف عنها بأن له أطرافاً من النوع
الخماسي بدلاً من الزعانف , ومن المعروف كذلك وجود شكل وسطي بين البرمائيات و
الزواحف هو الديمترادونن الذي عاش في العصر البرمي , و بالنسبة للثدييات فهناك
العديد من الدلائل على وجود الأشكال الوسيطة فمثلاً نجد أنه عاش في أميركا و في
النصف الأول من العصر الثلاثي أقدم سلف للحصان العصري ذلك الحصان أسمه الأيوجيبوس
و هو حيوان في حجم الثعلب ارتفاعه 30 سم و كان يمشي على أطراف أمامية رباعية
الأصابع و أطراف خلفية ثلاثية الأصابع و كانت أضراسه درنية و يعيش في الغابات , ثم
و مع بدء التغير المناخي وسيادة الدفء و تحول الغابات تدريجياً إلى سهول تطورت
أجياله اللاحقة ( الميزوجيبوس ـ ميوجيبوس ـ براجيبوس ـ ميروجيبوس ـ بليوجيبوس ـ
جيباريون ـ حصان بريجفال ـ الحصان الحالي ) حيث أختزل عدد الأصابع الجانبية نحو
الإصبع الثالث و تحولت الأضراس من الدرنية إلى المروحية التجعيد . و يلاحظ أن
الجهاز العصبي المركزي في الفقاريات و الانسان ينقسم إلى المخ و الحبل الشوكي و
كلما ارتقى الحيوان الفقري في تطوره كلما كان مخه أكبر و أكثر تعقيداً , فوزن مخ
الضفدعة و السمكة أقل من وزن الحبل الشوكي لديهما أما في القرود الشبيهة بالانسان
نجد أن وزن المخ عندها يساوي 16 مرة وزن الحبل الشوكي , و بالنسبة لمخ الانسان
فإنه يزيد عن وزن الحبل الشوكي ب 50 مرة
و في المجال المورفولوجي نجد بعض الدلائل الأخرى التي تؤكد
الأصل المشترك , ولتوضيح ذلك نذكر أنه في علم المورفولوجيا تستعمل التعريفات
التالية : - الأعضاء المتشابهة الوظيفة , - الأعضاء المتشابهة التركيب .
و يطلق لفظ الأعضاء المتشابهة الوظيفة على تلك الأعضاء
المتشابهة المنشأ و إذا اختلفت أمثال هذه الأعضاء فإن تركيبها أيضاً يختلف في مجرى
العملية التطورية و قد يكون هذا الاختلاف شديداً أحياناً , و كمثال على الأعضاء
المتشابهة الوظيفة يمكن أخذ أجنحة الفراشات و الطيور المتكيفة للطيران ذات التركيب
المتشابه من حيث الخطوط الأساسية و لكن في الوقت الذي تكون فيه أجنحة الفراشات
عبارة عن انثناء في الجلد في الأجزاء العليا من الحلقات الصدرية الثانية و الثالثة
فإن أجنحة الطيور عبارة عن تحور في الأطراف الأمامية .
أما الأعضاء متشابهة التركيب فنذكر مثال الأطراف الأمامية
للحيوانات الفقارية مثل أيدي الضفدعة , السحالي , زعانف الثدييات المائية , أيدي
الخلد الأوروبي , أيدي الإنسان , كل هذه عبارة عن الزوج الأول من الأطراف التي له
تركيب عام متشابه إلا أنها و في أعقاب قيامها بوظائف مختلفة فقد اختلفت فيما بينها
.
ومن الناحية الباثولوجية ( علم الأمراض ) هناك دلائل هامة حول
الأصل المشترك , فمن المعروف أنه لكل نوع من الأنواع الحيوانية أو النباتية أمراضه
و طفيلياته الخاصة به , ومما يثبت مثلاً قرابة الإنسان بالقرود هي وجود أمراض عامة
بينهما فقد درست طبيعة أمراض الإنسان على قرود الأنثروبيد حيث قام عالم روسي بعزل
الميكروب المسبب لمرض كوليرا الأطفال من أمعاء أطفال مصابين و قام بخلط هذا
الميكروب مع الغذاء الذي أطعمت به صغار قرود الأنثروبيد فأدى ذلك إلى إصابتهم و
ظهور أعراض مشابهة لأعراض المصابين من أطفال البشر , كما أجريت عدة تجارب مختلفة
عندما بدأ في نهاية القرن التاسع عشر وضع الأسس النظرية لنقل الدم حيث نقل في هذه
التجارب دم الإنسان إلى الحمام و دم الكلب إلى القرود و الدجاجة إلى الأرنب وقد
ماتت جميع الحيوانات التي نقل إليها الدم , وفي تجارب أخرى تم نقل الدم بين
حيوانات تمت بصلة قرابة فنقل دم الحصان إلى دم الحمار كما نقل دم الأرنب إلى
الأرنب الجبلي فلم تمت هذه الحيوانات كما لم تظهر عليها أي أعراض مرضية , و قد ثبت
علمياً أن دم الإنسان يقترب في صفاته البيولوجية و الكيميائية الحيوية من صفات دم
قرود الشمبانزي كما أن للشمبانزي نفس مجموعات الدم التي لدى الإنسان . كما أن
الفارق العضوي لبنية الغوريلا عن بنية الانسان أقل بكثير عن الفارق العضوي بين
بنية الغوريلا و القردة الدنيا و في هذا الصدد نعود و نؤكد على أن أوجه الشبه بين
الانسان و القردة العليا تؤكدها يوماً بعد يوم المعطيات العلمية لحديثة سواءً في
شكل الأعضاء أو في وظيفتها
ظهور الإنسان
ودلائل تطوره عن الأنواع الحيوانية :
يقول
الباحث ( جان بيغتو **)
من أكاديمية العلوم الفرنسية : أظن أنه من المتفق عليه الآن بأن الإنسان هو حيوان
من فئة الرئيسيات التي تضم الإنسان بالإضافة إلى القردة المتنوعة إلى أبعد حد .
ومن خلال متابعة مراحل نمو الجنين البشري نتأكد من تلك الصلة العضوية
القديمة التي تربطه بالكائنات الحية البعيدة و القريبة من نوعه , و بهذا الصدد
يقول هكسلي :" إنه في مدارج متقدمة من تطور الجنين البشري تبدو الانحرافات
التي تميزه عن جنين القرد , في حين أن جنين القرد ينحرف عن جنين الكلب في تخلقه
بمقدار ما ينحرف جنين الإنسان عن جنين القرد . وبالرغم مما لهذه الحقائق من الروعة
البالغة فإنها حقائق ثابتة تؤيدها المشاهدة " و ما دام الأمر على هذا النحو
فإنه من الإطناب الذي لا غنية فيه أن ندخل في جولة من الموازنات التي تظهر فيها
أوجه التشابه بين أجنة الإنسان و أجنه غيره من الثدييات.
فمما لا يحسن إغفاله أن جنين الإنسان يشابه غيره من أجنة
الحيوانات الأدنى منه في سلم الارتقاء , فالقلب مثلاً يلوح و كأنه وعاء نابض صغير
و عظم العصعص يظهر كأنه ذنب كامل , و في أجنة الفقاريات التي تتنفس الهواء توجد غدد
خاصة تسمى الأجسام الوليفية و هي تقابل و تعمل عمل الكليتين في الأسماك البالغة ,
و حينما نشتري سمكة نجد خياشيمها على جانبي عنقها و قل منا من يعلم أننا نحن أيضاً
نقضي فترة من حياتنا الجنينية نملك تلك الخياشيم التي تضمر فيما بعد , و عندما
يولد الجنين البشري يبقى مدة من الزمن و جمجمته لا تلتحم من أعلاها الأمامي إذ هي
جلدة طرية و هذه الجلدة تعود بنا إلى مئات الملايين من السنين الماضية عندما كنا
زواحف صغيرة تخشى الهجوم عليها من الأعلى فكانت لنا عين ثالثة مكان تلك الجلدة و
يبدو أن هذه العين تحولت إلى الغدة النخامية اليوم , و إذا ما تتبعنا مراحل نمو
الجنين بعد ذلك نراه يبدأ من خلية منفردة ملقحة تشبه حيواناً أحادي الخلية ثم تبدأ
بالانقسام حيث تنفلق فتتخذ شكلاً معيدياً و بنية معائيات الجوف و عندما تتكون
الوريقة الوسطى فإن الجنين يغدو شبيهاً في بنيته الدودة المسطحة ثم يتكون النخاع
الشوكي و القناة العصبية و يتغصن العنق و يرق جدار البلعوم في بعض الأماكن كأنه
سيكون شقوقاً غلصمية و لا يكون للقلب هنا إلا تجويفين فالجنين البشري يشبه هنا
جنين السمكة و بعدها تظهر الأيدي و الأرجل و يكون للجنين ذنب طويل كالجنين اللبوني
, لا يلبث هذا الذنب أن يزول لينبت للجنين شعراً كثيفاَ جاعلاً جلده أشبه بجلد
البهائم , هذا الشعر لا يلبث أن يزول أيضاً لتبدأ العلائم الإنسانية المعروفة
بالظهور .
و قد ذكر المشرح المعروف ريتشارد أوين أن إبهام القدم عند
الإنسان الذي هو مركز الاتزان عند الوقوف و المشي ربما يكون أخص تركيب تشريحي فيه
, ذلك أن إبهام القدم عند القردة يؤلف زاوية منفرجة مع بقية أصابع القدم و لا
يساير اتجاهها كما في الإنسان و لكن قد وجد أن إبهام الجنين البشري و هو بطول بوصة
واحدة يكون أقصر من بقية أصابع القدم و بدلاً من أن يكون مسايراً لاتجاه بقية
الأصابع يبرز منحرفاً عن القدم ومكوناً بانحرافه زاوية مقدارها كمقدار الزاوية
التي ينحرف بها إبهام القدم عند ذوات الأيدي الأربعة أي القردة العليا الأربعة (
الجابون – الأورانج أوتان – الغوريلا – الشامبانزي ) . كما توجد لجميع الحيوانات
العليا و منها الإنسان أعضاء أثرية بمعنى أن هذه الأعضاء كان لها عمل أو منفعة
خاصة في وقت سابق ثم قل استعمالها حتى ضمرت و تعطّلت وظائفها , ففي الإنسان يوجد
عدد كبير من العضلات المتعطلة و العضلات الأثرية و التي يمكن أن يعثر على ما
يقبلها يعمل و قائم بوظائف أساسية عند حيوان آخر , فليس منا من لم يشاهد حصاناَ أو
حماراً يحرك جلده حركة تموجية ليطرد عنه الهوام و في جسم الإنسان عضلات مشابهة لها
كعضلات الجبهة التي كذلك عضلات تحت فروة الرأس و العضلات محركة الأذن , إن كل هذه
العضلات هي عند الإنسان عضلات أثرية , و علاوة على ذلك نجد بين أصابع الكف البشرية
أغشية أثرية للعوم يمكن رؤيتها بوضوح عند النظر للكف من الناحية الظهرية كما تعتبر
الثنية نصف القمرية أو ما يسمى بالحاجب الثالث للعين الموجود في الزاوية الداخلية
للعين و كذلك ضرس العقل و بطين مورجان في بلعوم الإنسان و الزائدة الدودية كلها تركيبات
أثرية موجودة عند كل الناس , فمن أين تكون في الإنسان إن لم تكن قد أتت إليه من
أسلافه القدماء في مرحلة كانت فيها تلك الأعضاء ذات وظائف هامة لاستمرار النوع ؟ .
· أما بخصوص العلاقة الوئيقة بين الإنسان و
القرد فإن ما أُثبت اليوم كافي لإبعاد كل الإعتراضات التي تنفي وجود هكذا علاقة ,
و أهم تلك الإثباتات ما أتتنا به البيولوجيا الجزيئية التي أثبتت أن تركيب ال DNA له
شكل لولبي مؤلف من سلسلتين و في التكاثر تنفصل السلسلتان و تتصرف كل واحدة كقالب
لتجميع سلسلة جديدة و قد استطاع علماء الكيمياء الحيوية أن يفصلو السلسلتين و
سرعان ما راحوا يفصلون سلاسل ال DNA الخاصة بالبشر و بحيوانات كثيرة أخرى
. خلال تركيب سلسلة جديدة هجينة ( و الذي يتم عندما نفصل ال DNA
من نوع واحد من الرئيسات و يمز مع ال DNA من
نوع آخر من الرئيسيات ) لا تلتصق سوى الوحدات المماثلة من السلسلة الواحدة
بالوحدات المقابلة لها من السلسلة الثانية . و هنا لا بد من وجود ثماثل دقيق كامل
. و حقيقةً أن وحدات ال DNA من سلسلة الشمبانزي قد تتناسب تماماً
مع سلسلة لإنسان مع درجة ضئيلة جداً من الإختلاف , هذه الحقيقة كانت دليلاً مذهلاً
على مدى القرابة الوثيقة بين الجنسين , و فيما يخص الحموض الأمينية فإن الأبحاث
كلها تؤكد أن البشر يختلفون عن الشامبانزي في سلاسل الحموض اللأمينية ( بالنسبة
المئوية ) بنسبة 0,3 و الغوريلا بنسبة 0,6 و الأورانغوتان بنسبة 2,8 و سعدان
المكاك (العالم القديم ) بنسبة 3,9 و سعدان الكبوتشين ( العالم الجديد بنسبة 7,6 .
و هكذا فالبشر و القرود الإفريقية على درجة وثيقة من القرابة تجعلهما متشابهين إلى
حد لا يمكن فيه تمييز واحدهما عن الآخر اذا اتبعنا هذا الأسلوب . و ما نلاحظه على
سلوك الشمبانزي يثبت إلى حد كبير مدى اقترابه من الناحية السلوكية من سلوك الإنسان
, فعند هبوب عاصفة مثلاً لاحظت الباحثة غودال بأن ذكور الشامبانزي تقتلع الأغصان
عن الأشجار و تعدو على قدمين هابطة التلة و هي تلوّح بأسلحتها و تضرب بها الأرض ,
و كانت تصل إلى السفح ثم تعود إلى القمة و تكرر هذا الأداء المذهل الصاخب الذي يذكرنا
كثيراً بالمشاهد الطقسية الأولى عند الإنسان القديم التي تفرع عنها المفهوم الديني
بكافة أبعاده .
إن الإستنتاجات المبنية على التشابه في ال DNA و
أسس الحموض الأمينية هي استنتاجات كمية و موضوعية و خالية من المشاكل التي قد تنجم
عن المقارنات التشريحية
و يبدو أن بروز النوع الإنساني ككائن مسيطر كان أمراً لا مناص
منه اقتضته طبيعة التطور و التكيف في التعقيد , فنحن نعرف أنه مضى عصر كانت فيه
الزواحف العملاقة هي من يطغى على الحياة الأرضية و لكن مع تغير الظرف المحيط لسبب
ما ( على الغالب لاصطدام نيزك في سطح الأرض ) لم تتمكن تلك الزواحف على الرغم من
كبر حجمها من التكيف و الاستمرارية الأمر الذي أدى لإفنائها و انقراضها و بقاء
الزواحف الأصغر حجماً و الأكثر تكيفاً مع المحيط , و مع زيادة التطور ارتقى حجم
الدماغ لدى الحيوانات و بالتالي بدأ التنازع على البقاء يأخذ طابعاً مختلفاً حيث
اتسع إدراك الحيوان و نحن نعرف الآن مما نجده من متحجرات الحيوان قبل العصر
الجليدي الأخير و هو عصر بدايات نشوء الإنسان أن حجم الدماغ قد تضاعف عند الكائنات
الحية و بالتالي فقد تحول الصراع إلى صراع دهاء و مكر و حيلة فالعصر الجليدي جعل
الحياة شاقة على الأحياء لأن الطعام قد قل و مطالب الجسم ازدادت بزيادة البرودة ,
وقد خرج الإنسان هنا سيداً على الكائنات لأنه الأكبر دماغاً و في الواقع لم يكن
الدماغ وحده هو العامل في سيادة الإنسان و إنما ساعده على التفوق ثلاثة عوامل
مساعدة أخرى , أولها قوة حاسة النظر حيث كنا نعيش على الأرض و الأشجار و النظر
أكثر الحواس تذكية للعقل , و ثانيها وجود اليد العاملة المزودة بإصبع الإبهام الذي
أتاح لنا التحكم بالمواد و صناعة الأدوات أي أنه أتاح لنا إنتاج تقنية لا تضيع , و
في الواقع فقد نمت اليد للإنسان بفضل الوضعية الثنائية للقدمين و تبعاً
لذلك فقد ظهرت مهارات صنع الأدوات بأسلوب تقني و بالتناوب مع وظائف الدماغ فاليد
المتحررة تتيح للدماغ النمو إذ بين الدماغ و اليد علاقة جدلية ومع تحول مجموعات
كبيرة من الأنواع القردية و من ضمنها الإنسان إلى المشي على قدمين و مع تحرر
اليدين من الحركة فإن الهجوم بالأسلحة قد حل ببطء محل الهجوم بالوجه و الأسنان , و
قد أثبتت الأسلحة أنها أسلوب متفوق في القتال , و منذ أكثر من قرن من الزمان حاجج
داروين في أصل الإنسان بأن الأسنان الكبيرة للسلف القردي الذكري البالغ قد استبدلت
بالأدوات و الأسنان المستحاثية التي تم اكتشافها تظهر هذا الإرتقاء حيث الأسنان
الأصغر حجماً و تراكيب الرقبة التي تتماشى معههما لدليل على أن القرود التي بدأت
تعيش على أطراف الغابة قد استخدمت الأسلحة التي كانت قادرة على استعمالها بأيديها
, و لو أن الأنياب صغر حجمها قبل أن يتعلم أصحابها القتال بالعصي و الحجارة فإن
مثل هذه القرود كانت ستنقرض لا محالة أمام الخطر, أما ثالث تلك المقومات فهو
اللسان الذي لولاه لما انتفعنا من أيدينا و لا عقلنا إلا قليلاً بل أنه حتى قبل
مرحلة الإنسان الصانع كان هناك الإنسان المتفاهم القادر على الاتصال مع متشابهيه
من أفراد نوعه .
إن وجود دماغ متطور كإمكانية و جسم مجهز بعوامل دافعة و مشجعة
على التطور الذهني و استخدامه الخلاق هو ما ساعد الإنسان و مكنه من السيطرة على
بيئته ثم على الطبيعة الحية .
و عليه نستطيع أن نقول أن نقطة الانفصال الكبرى التي
ميزت الإنسان عن الحيوان و ساعدت على تميزه ثم تمايزه هي بزوغ العقل منفصلاً عن
الغريزة , فالعقل بما له من إمكانات المعرفة الخارجية الشمولية المتعددة المناحي و
الاتجاهات كان متميزاً متطوراً عن الغريزة ذات المنحى الأحادي التي و على الرغم من
دقة و اتساق عملها لدى بعض الكائنات الحيوانية فإنها تبقى ذات منحى معرفي أحادي
ضمني المنشأ و بالتالي فإنها تفتقد دافع الابتكار و التحرر من ربقة الطبيعة التي
أنشأتها , و عليه فإن مفهوم العقل بما يتضمنه من إمكانات تساؤليه بحثية متعددة
الاتجاهات هو الذي مكن من بزوغ الإنسان كنوع متميز يمتلك الثقافة التي لا يمكن لها
أن تكون دون العقل المتطور المتعدد الاتجاهات و الموضوعات , و الثقافة كما هو
معروف كانت و ما تزال العامل الأول من عوامل الحضارة و التطور .
وقد وجد في العصر الحاضر عدد كبير من مستحثات بقايا
الأجداد القدماء جداً للإنسان و هي القرود الشبيهة بالإنسان و ما ينبغي تأكيده هو
أن الإنسان لم يأتي كما هو شائع عن القرد بل هو و القرد نوعين منتميان لجد واحد و
قد أكد ذلك كل من داروين و هكسلي و قال في هذا الصدد الباحث جان بيغتو بأن السلالة
قبل الإنسانية ليست قردية حيث أن صفات الإنسان لم تكن لتتضح بعد في سلالته الأولى
.إذن إن تلك المكتشفات المذكورة قد ساعدت العلم على وضع عملية لتاريخ التطور .
لقد أثبتت أعمال الحفريات أن أسلاف الإنسان و قرود الأنثروبيد
الحالية كانت قرود الأنثروبيد القديمة التي عاشت في العصر الثلاثي منذ حوالي 35
مليون عام و قد انفصل النوع الإنساني عن تلك الشجرة منذ حوالي 15 مليون سنة أي في
العصر الثلاثي المتوسط حيث كون هذا الفرع أسلاف الإنسان و السلف الأقرب للإنسان
المعاصر نجده ذلك الإنسان المكتشف في جنوب إثيوبيا و الذي يعود تاريخه إلى حوالي 4
ملايين عام و قد تلت تلك المرحلة مرحلة تطور أدت لظهور الأستراليبيتيك التي أكتشفت
مستحاثاته في جنوب إفريقيا عن طريق عالم التشريح الجنوب إفريقي رايموند دارت في
العام 1925 و هي عبارة عن قرود بالغة التطور كانت تعيش في مناطق شاسعة جافة
تختلف تماماً عن الغابات التي عاش فيها أسلافه و قد عاش في المنطقة ما بين جنوب
إفريقيا و شرقها , و يبدو أن تلك المرحلة كانت بمثابة التمهيد لظهور الإنسان
المفكر المتأمل و الصانع منذ حوالي 2 مليون سنة و يبدو جلياً أنه عند هذا النوع من
أشباه البشر بدأ التمايز و الهيمنة البشرية بالظهور أي عند هذا التاريخ يبدو أن
هذا النوع بدأ يسيطر على المنطقة الجغرافية الخاصة به دون منازع من الأنواع
القردية المتطورة الأخرى , إنها حقيقة مذهلة أنه لم تكتشف أية عظام لقرود في أي من
مكامن الأستراليبيتيك . لقد تم جمع آلاف و آلاف العظام في منطقة ضخمة تمتد من جنوب
إفريقيا إلى إثيوبيا ووجدت مئات من عظام السعادين كذلك و لكن لم تكتشف و لا عظمة
قرد واحد و هذا يوحي بأن الطريقة الجديدة البشرية بالحياة فتحت مناطق هائلة لم تكن
القرود قادرة على احتلالها . لقد كان طول تلك القرود بين 130 ـ 150 سم أي كطول
قرود الشمبانزي كما كان حجم علبة مخهم بين 650 ـ 700 ملليمتر و كان يحمل دماغاً
يتراوح وزنه بين 450- 550 سم مكعب ( الدماغ البشري المعاصر يتراوح بين 1100-1500
سم و دماغ الغوريلا بين 350-650 سم مكعب ) كما كانت تلك القرود تمشي على قدمين
مقوستين , و تلى ذلك ظهور الأسلاف الأكثر تطوراً و هي البيتيكانتروب و السيناتروب
و الإنسان الهايديلبرغي هؤلاء عاشوا في حقبة مضى عليها حوالي المليون إلى 400 ألف
سنة و قد قام عالم التشريح ( أجين ديوبوا ) في جزيرة يافا بين عامي 1897 ـ 1892
بإجراء عملية تنقيب للبحث عن الحلقة الوسيطة التي توقع داروين وجودها بين القرد و
الإنسان و قد اكتشف غطاء جمجمة و عظم فخذ و أسنان لكائن غبر معروف في ذلك الوقت و
قد اقترح تسميته بيتكانتروب , لقد كان بناء جسم هذا الكائن يشبه كلاً من القردة و
الإنسان و كان مخه أكثر تطوراً من مخ الأستراليبيتيك حيث بلغ 900 ملليمتر و يلي
البيتكانتروب بحوالي بضع مئات الآلاف من السنين إنسان السيناتروب و هو ما يسمى
بالإنسان الصيني القديم , إن ذلك الإنسان يشبه من حيث الشكل الظاهر البيتكانتروب
إلا أن حجم جمجمته أكبر إذ تبلغ بين 850 ـ 1150 ملليمتر و بالتالي فقد كان ذلك
الإنسان قادراً على صنع أدوات للعمل تشبه المكشط و الإزميل و يبدو أنه عرف النار و
قام بالصيد , كما عثر في العام 1967 على جمجمة بقايا متراكمة من العصر الجليدي
الثاني عند ضواحي مدينة هايدلبرغ الألمانية و سميت هذه الجمجمة بالهايديلبرغية ,
كان لها ذقن طويل كما هو الحال عند القرود و كانت تملك أنياباً غير متطورة تماماً
أما بقية الأسنان فهي مثيلاتها عند الإنسان المعاصر . و في الحقبة الأخيرة من
العصر الحجري في الفترة الممتدة بين 400 ـ100 ألف عام كان ينتشر على سطح الأرض
الإنسان المسمى بالنيانتردالي الذي عثر على جمجمته للمرة الأولى سنة 1856 (
فبل ظهور كتاب أصل الأنواع لداروين ) عند مدين دوسيلدروف الألمانية ومن ثم تتابعت
الاكتشافات لهياكله في أوروبة و آسية و شمال إفريقية , لقد كان ذلك الإنسان قصير
القامة يتراوح طوله بين 155 ـ 163 سم و هيكله عموماًيشبه الإنسان المعاصر و لو أن
كتلته أكبر حيث العظام ثقيلة و غير منتظمة و فقرات العمود الفقري غير واضحة أما
جمجمته فكبيرة الحجم تتراوح بين 1300 ـ 1600 ملليمتر . أما أقرب إنسان مكتشف إلينا
فهو الإنسان المعاصر المنقرض الذي ظهر منذ حوالي 100 ألف عام و المسمى بإنسان
كرومانيون و قد عثر عليه لأول مرة في فرنسة سنة 1868 , كان هذا الإنسان كبير الحجم
يصل طوله إلى 180 سم و جمجمته ذات جبهة عريضة و عالية و تبلغ حوالي 1600 ملليمتر
أما العمود الفقري و استقامة الأرجل فكانت شبيهة بما عليه الحال عند الإنسان
المعاصر إلا أن عظامه كانت ثقيلة بعض الشيء و غير منتظمة و قد ظهرت عند هذا
الإنسان لأول مرة فكرة تقسيم العمل و العلاقات الاجتماعية و بعد انتهاء الفترة
الثلجية قبل حوالي 12 ألف عام أصبح المناخ أكثر دفئاً و بدأ الناس يشتغلون
بالزراعة و تربية الحيوان لتبدأ حقبة جديدة هي حقبة الإنسان المكتمل المفكر و
المنظم .و هكذا نجد أنه خلاال 120 عاماً تم جزئياً جمع الدلائل التي طالب بهها
داروين و قد رجع السجل في الماضي إلى أزمنة سحيقة أكثر بعداً من أي من التكهنات
الممكنة , كما وجد العديد من الحلقات المفقودة , و بمساعدة المستحثات استطعنا أن
نرى كيف كنا على امتداد الطريق معظمه .
لقد أصبحت النظرية التطورية هي النظرية السائدة في الأوساط
العلمية وهي النظرية التي طبعت بطابعها كافة مناحي الحياة و الفكر فأصل الأنواع هو
واحد و بالتالي فالتطور هو القانون الشامل الذي يسري على عالم الموجودات من مادة و
حياة على اعتبار أن الحياة نفسها ليست سوى نتيجة من نتائج المادة المتغيرة و
المتحولة باستمرار , و القول أن الحياة كيمياء هو قول حقيقي و بتقريب بسيط نجد
الحياة مؤلفة من تفاعل نوعين من الكيماويات هي البروتينات و الدنا الناتج عن تفاعل
ثلاث ذرات من الهيدرجين و الكربون و الأوكسجين ... مفهوم بسيط أعطى أعظم و أعقد و
أجمل أشكال المادة …
المصدر: الجمعية الكونية السورية
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق